الحوكمة وإدارة المخاطر والامتثال: الركيزة الاستراتيجية لحماية الشركات وتعزيز مرونتها في عصر الأزمات والتحول الرقمي

الحوكمة وإدارة المخاطر والامتثال: الركيزة الاستراتيجية لحماية الشركات وتعزيز مرونتها في عصر الأزمات والتحول الرقمي

يُعتبر مصطلح الحوكمة أو الحوكمة الرشيدة واحدًا من أهم المصطلحات التي حظيت باهتمام العديد من الجهات والمنظمات الدولية، وخاصة تلك العاملة في مجال التنمية، الأمر الذي أدى إلى تبلور مفاهيم متعددة ومتنوعة لهذا المصطلح الهام. وبسبب هذه الاختلافات، أصبحت الحوكمة موضوعاً يثير الجدل في مختلف أنحاء العالم.

يعود أصل مصطلح الحوكمة إلى كلمة إغريقية قديمة تُعبّر عن قدرة ربان السفينة ومهاراته في قيادتها وسط الأمواج والأعاصير والعواصف، وما يمتلكه من قيم وأخلاقيات نبيلة وسلوكيات شريفة في الحفاظ على أرواح وممتلكات الركاب. فإذا ما وصل بالسفينة إلى بر الأمان وعاد، فقد حقق مهمته بسلام. وبصفة عامة، يمكن أن نقول إن الحوكمة هي أسلوب ممارسة سلطات الإدارة الرشيدة أو الحكم الرشيد.

وقد ارتبطت نشأة الحوكمة في بداية الأمر بالشركات. ويلاحظ أن مفهوم الحوكمة غير محدد ويتفاوت من علم اجتماعي إلى آخر، إلا أنه استقر بعد نحو نصف قرن من الزمن ليشير إلى استخدام مجموعة من القواعد والآليات الرامية إلى تعزيز شفافية القرارات والتعاقدات والمعاملات، بما يحسن كفاءة الشركات ويدعم سبل الرقابة عليها.

وتُعرف حوكمة الشركات بأنها نظام صارم للرقابة على الجوانب المالية وغير المالية، ويتم من خلاله وبواسطته توجيه ومراقبة الشركة بأكملها، والتحديد الدقيق لأدوار الفاعلين الرئيسيين بالشركة، وهم: المساهمون، ومجلس الإدارة، والإدارة التنفيذية، وأصحاب المصالح.

وترجع بداية فكرة الحوكمة في الشركات إلى القرن التاسع عشر، وكان الهدف إيجاد قواعد للسلوك الحميد لمجلس الإدارة. وفي القرن العشرين، وبعد الأزمة الاقتصادية العالمية عام 1929، بدأ فقهاء القانون والاقتصاد في ابتكار وسائل لتحكم إدارة الشركات. وجاءت من مدرسة شيكاجو الاقتصادية عام 1937 فكرة الربط بين تكلفة المعاملات وتصرف الشركات، ثم في عام 1983 جاءت فكرة فصل الملكية عن الإدارة، ونظرية الوكالة كوسيلة لفهم حوكمة الشركات.

وعقب نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، ومع ظهور الشركات دولية النشاط، شهدت الولايات المتحدة الأمريكية دراسات هامة بشأن الشفافية والمساءلة في إدارة الشركات، قام بها أساتذة من جامعة هارفارد.

ويرتبط مفهوم حوكمة الشركات في الأساس بإيجاد هياكل قانونية تحكم وضع القرارات على مستوى مجلس الإدارة وتنفيذها. ومن ثم، فحوكمة الشركات هي المرجع الموجه للشركة الذي يحقق القيم الجوهرية المتعلقة بالشفافية والمسؤولية والمصداقية والمساءلة، إذ إن مصلحة إدارة الشركة قد تتعارض في الكثير من الأحيان مع مصلحة المساهمين.

كما أن الأزمات التي تواجه الشركات تؤثر ليس فقط على المساهمين، ومجلس الإدارة، ومراجعي الحسابات، وإنما تؤثر أيضًا على العاملين، والمستهلكين، والموردين، وجميع أصحاب المصالح، بل وعلى الاقتصاد القومي بأكمله.

وفي العادة، كانت كل أزمة تمر بها الشركة نتيجة عدم الكفاءة أو الغش أو سوء الإدارة، تُقابل بأنظمة إدارية جديدة لمنع تكرار هذه الأزمات، وزيادة القدرة التنافسية، وجذب الاستثمارات للشركات، وتحسين الاقتصاد بشكل عام.

وقامت العديد من الدول بإصدار تشريعات لوضع مؤشرات لحوكمة الشركات بها، مثل القانون الأمريكي Sarbanes-Oxley Act (SOX)، وهو القانون الذي تم وضعه عام 2002 لحماية المساهمين والجمهور العام من الأخطاء المحاسبية والممارسات الاحتيالية في المؤسسات، فضلاً عن تحسين دقة إفصاحات الشركات. وتدير لجنة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية هذا القانون، الذي يحدد المواعيد النهائية للامتثال وينشر القواعد بشأن المتطلبات.

وقد صدر هذا القانون ردًا على سلسلة من الفضائح المالية البارزة التي حدثت في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، منها: إنرون، وورلدكوم، وتايكو. وكانت أولى الفضائح المالية خلال السنوات الأخيرة تلك المتعلقة بانهيار بنك الاعتماد والتجارة الدولي عام 1991، والذي كان يضم عملاء من تجار الأسلحة وتجار المخدرات الكبار، الأمر الذي انهارت معه ثقة المستثمرين.

تضمن القانون مسؤولية الإدارة العليا عن سلامة القوائم المالية للشركات المساهمة العامة بالولايات المتحدة. وقد تم تحميل الرئيس التنفيذي للشركة والمدير المالي المسؤولية في حال وجود فساد بالمعلومات أو القوائم المالية.

وتُعرّف مؤسسة التمويل الدولية بالبنك الدولي حوكمة الشركات بأنها: النظام الذي يتم من خلاله إدارة الشركات والتحكم في أعمالها.

فالحوكمة هي مجموعة من النظم والقوانين والقرارات الهادفة إلى تحقيق الجودة والتميّز في الأداء، من خلال الأساليب المناسبة والفعالة لتجسيد خطط وأهداف المؤسسات.

كما تُعرّف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الحوكمة بأنها: النظام الذي يتم بواسطته توجيه أعمال الشركات ومراقبتها، اعتمادًا على هيكل توزيع الواجبات والمسؤوليات بين الأطراف المشاركة في الشركة المساهمة مثل مجلس الإدارة، والمديرين التنفيذيين، وغيرهم من ذوي المصالح، واستنادًا إلى القواعد والأحكام اللازمة لترشيد القرارات الإدارية.

ولحوكمة الشركات أهمية كبيرة، منها:

  • تعزيز الشفافية
  • تفعيل المساءلة
  • الحد من الفساد
  • تحقيق الاستدامة
  • حماية المساهمين
  • حماية أصحاب المصالح
  • تحسين الأداء المالي
  • جذب الاستثمار
  • تعزيز جاذبية السوق

width=434

وقد ظهر نموذج الحوكمة والمخاطر والامتثال مع سكوت ميتشل، وهو شخصية بارزة في مجال الحوكمة والمخاطر والامتثال (GRC – Governance, Risk, and Compliance). وكان من الرواد الذين ساهموا في تطوير هذا المجال وتنظيمه كمفهوم شامل لإدارة المؤسسات بطريقة تضمن الامتثال للقوانين واللوائح، وتحقيق أهداف الحوكمة الفعالة، وإدارة المخاطر بشكل منهجي.

وقد ركز ميتشل على أهمية تبنّي الشركات لمفهوم الحوكمة والمخاطر والامتثال، ليس فقط كالتزام قانوني، بل كوسيلة لتحقيق الاستدامة والنمو في بيئة عمل مليئة بالتحديات.

ويُطلق على محترفي الحوكمة والمخاطر والامتثال مصطلح مسؤولي الحماية، نظرًا للعمل الذي يقومون به. فهم ينتجون القيمة ويحافظون عليها في سبيل تحقيق الأداء المنضبط، ومن أجل الموثوقية في تحقيق الأهداف، والتعامل مع الأحوال غير المؤكدة، والعمل بنزاهة.

والسؤال الآن: ما هو الجديد في نموذج الحوكمة وإدارة المخاطر والامتثال عالميًا؟

  1. دمج نموذج الحوكمة والمخاطر والامتثال مع التحول الرقمي، واستخدام أنظمة مؤتمتة تربط بين عناصر GRC عبر منصة واحدة.
  2. دمج معايير الاستدامة البيئية والاجتماعية ضمن إطار الحوكمة الحديث، كشرط أساسي لجذب رأس المال.
  3. إدراج مخاطر الأمن السيبراني كجزء أساسي في جميع استراتيجيات GRC، بسبب تزايد التهديدات الرقمية.
  4. تطور إدارة المخاطر من التوقع إلى الذكاء الاصطناعي، حيث لم تعد تعتمد فقط على السجلات التقليدية، بل دخلت تقنيات التحليل التنبئي والذكاء الاصطناعي في تقييم المخاطر.
    • في الاتحاد الأوروبي، ألزمت التوجيهات البنوك بدمج إدارة المخاطر التشغيلية مع استراتيجيات رأس المال، مما زاد من مرونتها في مواجهة الأزمات المالية.
  5. تحول الامتثال من التزام قانوني إلى ميزة تنافسية؛ لم يعد مجرد التزام لتفادي الغرامات، بل أصبح عنصرًا أساسيًا لجذب المستثمرين والشركاء الدوليين.
    • في الاتحاد الأوروبي، أصبحت لائحة حماية البيانات معيارًا عالميًا، وتُعد الشركات التي تلتزم بها أكثر ثقة وجاذبية.
    • كذلك في أستراليا وكندا، تم دمج الامتثال مع الاستدامة البيئية والاجتماعية ضمن تقارير الشركات.

وأخيرًا، يمكن القول إن الحوكمة لا تمثل مجرد إطار تنظيمي، بل هي حجر الأساس الذي يمنح المؤسسات القدرة على الصمود أمام التحديات وتحقيق نمو مستدام. تكمن قوتها في الدمج بين الشفافية والمساءلة، والقدرة على استشراف المخاطر والتعامل معها بذكاء، والالتزام الصارم بالقوانين، بما يعكس ثقة المستثمرين، ويُعد أداة أساسية لبناء شركات قوية ومرنة قادرة على المنافسة في بيئة متغيرة باستمرار.

الابتكار-والإبداع

حوكمة الأزمات: كيف تدير الحكومات الكوارث و الأزمات المعقدة؟
حوكمة الأزمات: كيف تدير الحكومات الكوارث و الأزمات المعقدة؟
القيادة المرنة الرشيقة Leading through Resilience & Agility
القيادة المرنة الرشيقة Leading through Resilience & Agility
الهوية القوية للقائد: كيف قاد بوب شابمان شركته خلال الأزمة المالية العالمية؟
الهوية القوية للقائد: كيف قاد بوب شابمان شركته خلال الأزمة المالية العالمية؟
عرض جميع المقالات

انضم إلينا في أماكن التدريب الشائعة

استكشف تجارب تعليمية عالمية المستوى في أبرز الوجهات حول العالم — من لندن إلى دبي؛ تجمع أماكن التدريب الشائعة لدينا بين الدورات التي يقدمها خبراء والمواقع الملهمة.