الإقتصاد السلوكي و السياسات العامة: كيف نصمم تدخّلات حكومية أكثر فاعلية؟

من فهم النفس البشرية إلى تصميم سياسات أكثر تأثيرًا في واقع الناس
مقدمة
في قلب كل سياسة عامة ناجحة يقف فهم دقيق للسلوك البشري. تقليديًا، اعتبرت النماذج الاقتصادية أن الأفراد عقلانيون في قراراتهم، يسعون دائمًا لتعظيم المنفعة وتقليل التكلفة. لكن التجربة والخبرة أثبتت أن البشر ليسوا دائمًا عقلانيين؛ فهم يتأثرون بالتحيّزات، والانفعالات، والعوامل الاجتماعية، والبيئية. من هنا برز علم الاقتصاد السلوكي باعتباره أداة جديدة ومؤثرة تساعد صانعي السياسات على فهم كيف يتخذ الأفراد قراراتهم في الواقع، لا في النموذج النظري.
الاقتصاد السلوكي (Behavioral Economics) هو تقاطع بين علم النفس والاقتصاد. يدرس كيف تؤثر العوامل النفسية والاجتماعية والسياقية في سلوك الأفراد، ويكشف الفجوة بين السلوك “المثالي” الذي تتوقعه النماذج الاقتصادية التقليدية، والسلوك “الفعلي” الذي يُلاحظ في الحياة اليومية. هذا العلم لا يُسهم فقط في فهم الأخطاء السلوكية التي يقع فيها الأفراد، بل يوفّر أيضًا أدوات ذكية لتوجيه السلوك البشري نحو الأفضل دون فرض أو إكراه.
اليوم، ومع تزايد التحديات التي تواجه الحكومات — من تغيّر المناخ، إلى الصحة العامة، إلى الامتثال الضريبي، إلى ترشيد استهلاك الطاقة — يصبح الاقتصاد السلوكي أداة بالغة الأهمية في ترسانة السياسات العامة، إذ يسمح بابتكار تدخّلات حكومية أكثر فعالية، وواقعية، وأقل تكلفة.
أولًا: ما هو الاقتصاد السلوكي ولماذا يهم في تصميم السياسات؟
الاقتصاد السلوكي يعترف بأن الأفراد لا يتصرفون دائمًا بعقلانية، بل يتأثرون بـ:
- التحيزات الإدراكية مثل الانحياز للتفاؤل أو النفور من الخسارة.
- الاعتياد والتكرار: كثير من السلوكيات تحكمها العادة، لا التفكير الواعي.
- السياق الاجتماعي: تقليد الآخرين، وتأثير المعيار الاجتماعي.
- الإرهاق المعرفي: كلما زادت الخيارات أو التعقيدات، قلت جودة القرار.
لذلك فإن صانعو السياسات الذين يتجاهلون هذه العوامل يصممون تدخّلات غير فعالة أو غير واقعية. أما من يستخدم أدوات الاقتصاد السلوكي، فيمكنه:
- زيادة نسب المشاركة في برامج حكومية دون فرض إلزام.
- تحسين الالتزام بالتعليمات (كالتطعيم، أو دفع الغرامات).
- جعل السلوك الإيجابي هو الخيار الافتراضي.
ثانيًا: كيف يترجم الاقتصاد السلوكي إلى سياسات عامة؟
يعتمد الاقتصاد السلوكي على مفاهيم عملية مثل:
التوجيه السلوكي (Nudging):
تغيير طريقة عرض الخيارات بحيث يصبح السلوك المرغوب أكثر سهولة أو جاذبية، مثل:
- جعل التبرع بالأعضاء خيارًا افتراضيًا (Opt-out بدلاً من Opt-in).
- ترتيب الأطعمة الصحية في مقدمة خط المطعم.
التصميم السلوكي (Behavioral Design):
هندسة النماذج والخدمات الحكومية لتقليل العوائق السلوكية، مثل:
- تبسيط نماذج التسجيل الحكومي.
- تقليل الخطوات اللازمة للتقديم على خدمة ما.
المعيار الاجتماعي (Social Norms):
استخدام رسائل توضح أن “معظم الناس” يقومون بالفعل المرغوب فيه، مثل:
- “90% من السكان دفعوا ضرائبهم في الموعد”.
التغذية الراجعة الفورية (Real-time Feedback):
إعلام الأفراد بأثر سلوكهم مباشرة، مثل العدادات الذكية للطاقة.
ثالثًا: أمثلة وتطبيقات حقيقية حول العالم
- الادخار والتقاعد (الولايات المتحدة):
عندما أصبحت الاشتراكات في خطط التقاعد آلية (بدلاً من أن يطلب الموظف الاشتراك يدويًا)، قفزت نسب الادخار إلى أكثر من 80% في بعض الشركات.
- الضرائب (المملكة المتحدة):
تجربة أُجريت من قبل “وحدة التوجيه السلوكي” (Behavioural Insights Team) أظهرت أن مجرد إضافة جملة: “تسعة من كل عشرة أشخاص في منطقتك دفعوا ضرائبهم بالفعل” زاد الامتثال بنسبة 15%.
- الصحة العامة (أستراليا):
تجربة لتشجيع الفحص المبكر للسرطان باستخدام رسائل مخصصة ذكّرت الأفراد أن أقرانهم قاموا بالفحص، ما أدى إلى زيادة كبيرة في معدلات الكشف المبكر.
- الطاقة والمياه (الولايات المتحدة):
عند تزويد المنازل ببيانات مقارنة استهلاكهم بالمتوسط العام، انخفض استهلاك الطاقة بنسبة 2-5% في المتوسط.
رابعًا: الاقتصاد السلوكي في السياق العربي
رغم محدودية الاستخدام الممنهج للاقتصاد السلوكي في الدول العربية، إلا أن الفرص هائلة. فالتحديات في ملفات مثل:
- ترشيد استهلاك الكهرباء والمياه.
- زيادة نسبة المشاركة في التطعيم.
- تحسين الامتثال للقوانين.
- مكافحة الهدر الغذائي.
كلها يمكن أن تستفيد من التوجيهات الذكية منخفضة التكلفة، خاصة أن التدخلات السلوكية لا تحتاج إلى تعديل قوانين أو هياكل كبيرة، بل تعتمد على فهم عميق للسلوك وتصميمات بسيطة وفعالة.
بعض الحكومات الخليجية بدأت بالفعل في التفكير بمنهج “المختبرات السلوكية” لإجراء التجارب وتحسين الخدمات الحكومية. والمستقبل يتطلب دمج هذا التوجه داخل أجهزة التخطيط والتنمية وسياسات الرعاية الاجتماعية.
خامسًا: التحديات الأخلاقية والسياسية
ليس كل استخدام للاقتصاد السلوكي محايدًا. من المهم التأكيد على:
- الشفافية: يجب إبلاغ المواطنين بوجود التوجيهات السلوكية.
- حرية الاختيار: لا يجب أن تؤدي السياسات إلى التلاعب أو التوجيه الخفي.
- المساءلة: على الحكومات تقييم الأثر وتعديل السياسات بناء على الأدلة.
التوجيهات الذكية يجب أن تكون أخلاقية، قائمة على الأدلة، وتصب في الصالح العام، لا لخدمة أهداف ضيقة.
خاتمة
لم تعد السياسات العامة مجرد قرارات مركزية تُصاغ في المكاتب العليا. بل أصبحت اليوم عملية ديناميكية تعتمد على فهم الواقع والسلوك، والتجربة، والتعديل المستمر. الاقتصاد السلوكي ليس عصًا سحرية، لكنه يمثل أحد أقوى الأدوات المتاحة أمام صانع القرار لابتكار سياسات أكثر واقعية وأثرًا.
في ظل محدودية الموارد، وزيادة التحديات الاجتماعية والبيئية، تصبح السياسات السلوكية أداة لا غنى عنها. الحكومات التي تستثمر في فهم النفس البشرية، وتستخدم الاقتصاد السلوكي بذكاء وشفافية، ستكون الأكثر قدرة على بناء الثقة، وتحقيق الامتثال، وتعظيم الأثر المجتمعي.
تدعوكم جلوماكس لإستكشاف الدورات التدريبية التي تسعى إلى تطوير المهارات المحاسبية في إدارة الأصول و الإلتزامات:
- المالية السلوكية Behavioural Finance و دورها في القرارات المؤسسية
- تحسين كفاءة الانفاق لأغراض التنمية المستدامة
- الاتجاهات الحديثة في محاسبة وترشيد التكاليف
- الحوكمة الفعالة ودورها في تعزيز الشفافية والرقابة المالية
- التحول للمعايير المحاسبية الدولية للقطاع العام IPSAS
- رفع كفاءة الانفاق الحكومي وتعظيم الايرادات




